آهات مسموعة.
تثاءب الليل بتثاقل ليطبق بين ذراعيه السكون، وجوم من الصمت المخيف اخترقه
صوت آهاتها المتعالية، تنهدت. مشت بخطى متثاقلة، نصف ابتسامة على شفتيها الذابلة،
تتماثل للسقوط جثتها الناحلة، تقاسيم وجهها بدت باهتة يكسوها الخوف والحزن. أسبلت
جفنيها في استسلام بعد طول تفكير وبكاء لتخرج كلمات مختلقة من فمها، تصرخ بأعلى
صوتها لتعبر عن حزنها بزوبعة مدوية من قنبلة موقوتة حبست بداخلها.
منذ أن دخلت تلك المدينة المهجورة وأنا أشعر أن الغيوم الملبدة السوداء تبعث في
الجو نوعاً من الكآبة،وكأنها فقدت عزيزاً غاب عنها..
كان كوخها بارد تلفه أزهار القرمز الباهرة، أغلقت النوافذ لأن الريح عصفت منذرة
بقدوم الشتاء، أعددت حساء ساخناً أعجب العجوز وكأني أشعلت قنديل أمل في قلبها،
لكنها ما زالت تفكر في مصيرها بعد أن تركها زوجها تقاسي ألوان العذاب لوحدها، فبعد
وفاته أفنت من عمرها السنون لتربية صغيريها..
أحنت ظهرها على ماكينة الخياطة لتنسج بسمة وترسم بهجة في نفسي (صلاح) و(أفراح)،
لم تشأ يوماً أن تشعرهم بأن هناك أحداً أفضل منهم ولو أنهم يأكلون الخبز يومياً..
كانت أمنيتهم الوحيدة التلذذ بطعم اللحمة ولكن ما تحصده الأم من بيعها للملابس لا يكفي لشرائها.
وتمر السنين مر السحاب ليحصل (صلاح) على وظيفة جيدة، وتتزوج (أفراح).
فاتح (صلاح) والدته في موضوع الزواج فأراد أن يتزوج فتاة من طبقة راقية، فقاطعت
الأم ولدها قائلة: ولكن ياولدي فاتن لا تناسبك.. انها فتاة اعتادت على العيش في فيلا
ضخمة لا تحرك ساكناً فقط تسترخي على فراشها الناعم وتقوم خادمتها الخاصة بتلبية جميع متطلباتها.
رفع صلاح صوته على أمه: ما بك يا أمي لقد كبرت وأستطيع اتخاذ قراراتي بنفسي وأنا
أتحمل مسؤولية اختياري. وكأن صلاح رفع زناد مسدس لتطلق الرصاصة أفراح بقولها:
نعم يا أمي لقد كبرنا ولنا حرية التصرف فهذه حياتنا ولا دخل لك فيها.
انهارت قواها.. بحثت عن زاوية لتسندها.. لأول مرة يرفع ولديها صوتهما عليها. ياالله.
أهكذا تدور دائرة الزمن لتجعل أولادي بعد العناء والشقاء وسهر الليالي يعاملونني بهذه القسوة؟؟
استسلمت الأم لرغبة ولدها فوافقت على زواجه من فاتن، لمعت في عينيها دموع فرح
تخرج مرغمة عنها، ربما لفرحتها رغم حزنها.
تزوج صلاح لتبدأ المشكلة. لم تشأ فاتن العيش في ذلك الكوخ الخشبي فهي اعتادت على
عيشة الرفاهية، لا تريد أن يضايقها أحد في منزلها فهو ملك لها وهذا يعني أن صلاح
سوف يضطر للعيش في منزل مستقل جديد بدون أمه. لم تجد الأم وسيلة لشراء المنزل
لابنها غير بيعها جميع ما تملكه من أشياء ثمينة ذكرى من زوجها حتى ماكينة الخياطة لم تبقيها.
آه .. لقد مرت سبع سنين ولم أرى فيهن ولداي. لقد اشتقت لهما كثيراً.. ياترى هل أصبح
لدي أحفاد؟؟ وماذا يقولا والديهما عني؟ هل يقولان أني لست على قيد الحياة ؟ أم يقولان
أني كنت سيئة؟ هل يقولان .. ويقولان...
صرخت بأعلى صوتها أحسست أن صرختها خرجت من هنا من قلب منكسر مجروح
ثم انسابت دموع صامتة من عينيها المرهقتين ، اختفت البسمة الوادعة التي تلون الشفتين،
تلاشت الفرحة الغامرة التي تلون عينيها الواسعتين، ولكن تلك العينين أتعبت من كثرة البكاء.
وبعد برهة من الصمت قالت: (الحمد لله) أنشودة ملحنة صاغها لسانها الطاهر.لم تملك
الا الدعاء لهما وان لم يريدا زيارتها. حتى الغرب أصبحوا أفضل منهما فهم يرسلون
البطاقات والهدايا في عيد الأم أما هما فلا..
أصبحت يائسة. كرهت الحياة تريد أن يوافيها الأجل في أقرب وقت ممكن . تحول الأمل
الجميل المزركش بالورود الى كابوس مزعج. تمنت أن يدق بابها يوماً فترى من
الطارق؟ فتفاجأ بقدوم حفيدها ليلبسها أكليلاً من الزهور.
لكنها فقدت الأمل فقد اعتادت على من يطرق الباب: إما الريح أو عابر سبيل أو التعاسة كما تقول.
لا أظن أن السعادة مرتبطة بالحظ. فمن يريد أن يكون سعيداً يستطيع ذلك. ولكن معها
حق. فقلب الأم حنون وهي كبيرة في السن تحتاج الى كلمة عطف حتى تنام بارتياح.
مرت سنون طوال لم يزرها أحد إلى أن توفيت . فارقت الدنيا وهي بشوق كبير لرؤية أحفادها.
رحمها الله . توفيت في يوم عاصف. أمالت الريح غصن شجرة نحو كوخها وكأنهما وقعا
في احتضان عميق بعد طول غيابهما.
كنت ممن حضر تشييعها بيد أني لم ألحظ بنتها أفراح ولا ولدها صلاح وهذا مما زاد حزني حزناً.
اننا في هذا اليوم نلحظ جحوداً ونكراناً من الأبناء لوالديهم.
ربما تكون قضية العصر التي غفل عنها الكثير لأنها أصبحت عادة تطبع عليها الإنسان
ومن السهل تطبيقها. فالتضحية لم يعد مهماً من هو صاحبها مهما كان.
يوم آخر توارت شمسه خلف غيوم لم تجد الجرأة لرمي حمولتها من الأمطار لكنها
بالتأكيد تمكنت من حجب الشمس.. أردت المواصلة في الكتابة لكن البرد يشتد شيئا فشيئاً
وأفكاري تهرب مني وأسناني تصطك ببعضها، ويداي ترتجفان بادية عدم الرغبة في
الاكمال وصوت الرعد يحدث فرقعة مروعة فقررت الإختباء تحت الغطاء.
الرمش الحزين.
تثاءب الليل بتثاقل ليطبق بين ذراعيه السكون، وجوم من الصمت المخيف اخترقه
صوت آهاتها المتعالية، تنهدت. مشت بخطى متثاقلة، نصف ابتسامة على شفتيها الذابلة،
تتماثل للسقوط جثتها الناحلة، تقاسيم وجهها بدت باهتة يكسوها الخوف والحزن. أسبلت
جفنيها في استسلام بعد طول تفكير وبكاء لتخرج كلمات مختلقة من فمها، تصرخ بأعلى
صوتها لتعبر عن حزنها بزوبعة مدوية من قنبلة موقوتة حبست بداخلها.
منذ أن دخلت تلك المدينة المهجورة وأنا أشعر أن الغيوم الملبدة السوداء تبعث في
الجو نوعاً من الكآبة،وكأنها فقدت عزيزاً غاب عنها..
كان كوخها بارد تلفه أزهار القرمز الباهرة، أغلقت النوافذ لأن الريح عصفت منذرة
بقدوم الشتاء، أعددت حساء ساخناً أعجب العجوز وكأني أشعلت قنديل أمل في قلبها،
لكنها ما زالت تفكر في مصيرها بعد أن تركها زوجها تقاسي ألوان العذاب لوحدها، فبعد
وفاته أفنت من عمرها السنون لتربية صغيريها..
أحنت ظهرها على ماكينة الخياطة لتنسج بسمة وترسم بهجة في نفسي (صلاح) و(أفراح)،
لم تشأ يوماً أن تشعرهم بأن هناك أحداً أفضل منهم ولو أنهم يأكلون الخبز يومياً..
كانت أمنيتهم الوحيدة التلذذ بطعم اللحمة ولكن ما تحصده الأم من بيعها للملابس لا يكفي لشرائها.
وتمر السنين مر السحاب ليحصل (صلاح) على وظيفة جيدة، وتتزوج (أفراح).
فاتح (صلاح) والدته في موضوع الزواج فأراد أن يتزوج فتاة من طبقة راقية، فقاطعت
الأم ولدها قائلة: ولكن ياولدي فاتن لا تناسبك.. انها فتاة اعتادت على العيش في فيلا
ضخمة لا تحرك ساكناً فقط تسترخي على فراشها الناعم وتقوم خادمتها الخاصة بتلبية جميع متطلباتها.
رفع صلاح صوته على أمه: ما بك يا أمي لقد كبرت وأستطيع اتخاذ قراراتي بنفسي وأنا
أتحمل مسؤولية اختياري. وكأن صلاح رفع زناد مسدس لتطلق الرصاصة أفراح بقولها:
نعم يا أمي لقد كبرنا ولنا حرية التصرف فهذه حياتنا ولا دخل لك فيها.
انهارت قواها.. بحثت عن زاوية لتسندها.. لأول مرة يرفع ولديها صوتهما عليها. ياالله.
أهكذا تدور دائرة الزمن لتجعل أولادي بعد العناء والشقاء وسهر الليالي يعاملونني بهذه القسوة؟؟
استسلمت الأم لرغبة ولدها فوافقت على زواجه من فاتن، لمعت في عينيها دموع فرح
تخرج مرغمة عنها، ربما لفرحتها رغم حزنها.
تزوج صلاح لتبدأ المشكلة. لم تشأ فاتن العيش في ذلك الكوخ الخشبي فهي اعتادت على
عيشة الرفاهية، لا تريد أن يضايقها أحد في منزلها فهو ملك لها وهذا يعني أن صلاح
سوف يضطر للعيش في منزل مستقل جديد بدون أمه. لم تجد الأم وسيلة لشراء المنزل
لابنها غير بيعها جميع ما تملكه من أشياء ثمينة ذكرى من زوجها حتى ماكينة الخياطة لم تبقيها.
آه .. لقد مرت سبع سنين ولم أرى فيهن ولداي. لقد اشتقت لهما كثيراً.. ياترى هل أصبح
لدي أحفاد؟؟ وماذا يقولا والديهما عني؟ هل يقولان أني لست على قيد الحياة ؟ أم يقولان
أني كنت سيئة؟ هل يقولان .. ويقولان...
صرخت بأعلى صوتها أحسست أن صرختها خرجت من هنا من قلب منكسر مجروح
ثم انسابت دموع صامتة من عينيها المرهقتين ، اختفت البسمة الوادعة التي تلون الشفتين،
تلاشت الفرحة الغامرة التي تلون عينيها الواسعتين، ولكن تلك العينين أتعبت من كثرة البكاء.
وبعد برهة من الصمت قالت: (الحمد لله) أنشودة ملحنة صاغها لسانها الطاهر.لم تملك
الا الدعاء لهما وان لم يريدا زيارتها. حتى الغرب أصبحوا أفضل منهما فهم يرسلون
البطاقات والهدايا في عيد الأم أما هما فلا..
أصبحت يائسة. كرهت الحياة تريد أن يوافيها الأجل في أقرب وقت ممكن . تحول الأمل
الجميل المزركش بالورود الى كابوس مزعج. تمنت أن يدق بابها يوماً فترى من
الطارق؟ فتفاجأ بقدوم حفيدها ليلبسها أكليلاً من الزهور.
لكنها فقدت الأمل فقد اعتادت على من يطرق الباب: إما الريح أو عابر سبيل أو التعاسة كما تقول.
لا أظن أن السعادة مرتبطة بالحظ. فمن يريد أن يكون سعيداً يستطيع ذلك. ولكن معها
حق. فقلب الأم حنون وهي كبيرة في السن تحتاج الى كلمة عطف حتى تنام بارتياح.
مرت سنون طوال لم يزرها أحد إلى أن توفيت . فارقت الدنيا وهي بشوق كبير لرؤية أحفادها.
رحمها الله . توفيت في يوم عاصف. أمالت الريح غصن شجرة نحو كوخها وكأنهما وقعا
في احتضان عميق بعد طول غيابهما.
كنت ممن حضر تشييعها بيد أني لم ألحظ بنتها أفراح ولا ولدها صلاح وهذا مما زاد حزني حزناً.
اننا في هذا اليوم نلحظ جحوداً ونكراناً من الأبناء لوالديهم.
ربما تكون قضية العصر التي غفل عنها الكثير لأنها أصبحت عادة تطبع عليها الإنسان
ومن السهل تطبيقها. فالتضحية لم يعد مهماً من هو صاحبها مهما كان.
يوم آخر توارت شمسه خلف غيوم لم تجد الجرأة لرمي حمولتها من الأمطار لكنها
بالتأكيد تمكنت من حجب الشمس.. أردت المواصلة في الكتابة لكن البرد يشتد شيئا فشيئاً
وأفكاري تهرب مني وأسناني تصطك ببعضها، ويداي ترتجفان بادية عدم الرغبة في
الاكمال وصوت الرعد يحدث فرقعة مروعة فقررت الإختباء تحت الغطاء.
الرمش الحزين.